الاثنين، أغسطس 01، 2011

نَزِّه الله - تعالى - وعظمه أن يراك حيث نَهَاك، أو يفقدك حيث أمرك


أبو حازم عند سليمان بن عبدالملك
وعن عبدالله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه قال: دخل سليمان بن عبدالملك المدينة حاجًّا، ..فقال: هل بها رجل أدرك عِدَّة من الصَّحابة؟

قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسل إليه، فلما أتاه،
قال: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ 
قال: وأيُّ جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟
قال: وجوه الناس أتوني، ولم تأتني، 
قال: والله، ما عرفتني قبل هذا، ولا أنا رأيتك، فأيُّ جفاء رأيتَ مني؟
فالتفت سليمان إلى الزهري، فقال: أصابَ الشيخ وأخطأت أنا.
فقال: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟
فقال: عمَّرتم الدُّنيا، وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العُمران إلى الخراب، 
قال: صدقت، 
فقال: يا أبا حازم، ليت شعري ما لنا عند الله - تعالى - غدًا؟ 
قال: اعرض عَمَلَك على كتاب الله - عزَّ وجلَّ -
قال: وأين أجدُه من كتاب الله - تعالى -؟
قال: قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، 
قال سليمان: فأين رحمة الله؟
قال أبو حازم: قريب من المحسنين،
قال سليمان: ليت شعري كيف المفرُّ من الله غدًا؟
قال أبو حازم: أمَّا المحسن كالغائب يقدم على أهله، وأمَّا المسيء كالآبق يقدم به على مولاه، ......فبكى سليمان حتى علا نحيبه، واشتد بكاؤه.
فقال: يا أبا حازم، كيف لنا أنْ نصلح؟
قال: تَدَعون عنكم الصَّلَف، وتَمَسَّكون بالمروءة، وتقسمون بالسوية، وتعدلون في القضية،            قال: يا أبا حازم، وكيف المأخذ من ذلك؟
قال: تأخذه بحقه، وتضعه بحق في أهله.
قال: يا أبا حازم، مَن أفضل الخلائق ؟
قال: أُولُو المروءة والنُّهى.
قال: فما أعدل العدل؟
قال: كلمة صدق عند من ترجوه وتَخافه.
قال: فما أسرع الدُّعاء إجابة؟
قال: دعاء المحسن للمحسنين.
قال: فما أفضل الصدقة؟
قال: جهد المقل إلى يد البائس الفقير، لا يتبعها منٌّ ولا أذى، 
قال: يا أبا حازم، مَن أكيس الناس؟
قال: رجلٌ ظفر بطاعة الله، فعمل بها، ثم دل الناس عليها.
قال: فمن أحمق الخلق؟
قال: رجل اغتاظ في هوى أخيه وهو ظالم له، فباع آخرته بدُنياه.
قال: يا أبا حازم، هل لك أن تصحَبَنا وتصب منا ونصيب منك؟
قال: كلاَّ،
قال: ولِمَ؟ 
قال: إنِّي أخاف أنْ أركن إليكم شيئًا قليلاً، فيذيقني الله ضِعْفَ الحياة وضِعْفَ الممات، ثم لا يكون لي منه نصيرٌ، 
قال: يا أبا حازم، ارفع إلَيَّ حاجتك؟
قال: نعم، تدخلني الجنة، وتخرجني من النار،
قال: ليس ذلك إليَّ،
قال: فما لي حاجة سواها.
قال: يا أبا حازم، فادعُ الله لي،
قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك، فيسره لخير الدُّنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تُحِبُّ وترضى،
قال سليمان: قطُّ، 
قال أبو حازم: قد أكثرت وأطنبت إن كنت أهله، وإن لم تكن أهله، فما حاجتك أن ترميَ عن قوس ليس لها وتر؟
قال سليمان: يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟
قال: أَوَتُعفيني يا أمير المؤمنين؟
قال: بل نصيحة تلقيها إليَّ، 
قال: إنَّ آباءَك غصبوا الناسَ هذا الأمر، فأخذوه عُنوة بالسَّيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة، وارتحلوا فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم؟
فقال رجل من جُلسائه: بئس ما قلت، 
قال أبو حازم: كَذَبَت، إن الله - تعالى - أخذ على العُلماء الميثاقَ ليُبَلِّغُنَّه للناس ولا يكتمونه.
قال: يا أيا حازم، أوصني،
قال: نعم، سوف أوصيك وأوجز: نَزِّه الله - تعالى - وعظمه أن يراك حيث نَهَاك، أو يفقدك حيث أمرك،
ثم قام، فلما وَلَّى 
قال سليمان : هذه مائة دينار أنفقها، وعندي لك أمثالها كثير، فرمى بها،
وقال: والله، ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي، إنِّي أعيذُك بالله أن يكونَ سؤالُك إياي هَزْلاً، ورَدِّي عليك بَذْلاً، إن موسى بن عمران - عليه الصلاة والسلام - لما وَرَدَ ماء مدين، 
قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]،
فسأل موسى - عليه السَّلام - رَبَّه - عزَّ وجلَّ - ولم يسألِ الناس، 
ففطنت الجاريتان ولم تفطن الرُّعاة لما فطنتا إليه، 
فأتيا أباهما شُعيبًا - عليه السَّلام - فأخبرتاه خبره،
قال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعًا،
ثم قال لإحداهما: اذهبي ادعيه، فلما أتته أعظمته، وغطت وجهها،
ثم قالت: ﴿إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ [القصص: 25].
فلما قالت: ﴿ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ [القصص: 25]،
كره موسى - عليه السَّلام - ذلك، وأراد أن لا يتبعها، ولم يجد بُدًّا من أن يتبعها؛ لأنه كان في أرض مسبعة وخوف، فخرج معها، وكانت امرأة ذات عَجُز، فكانت الرياح تصرف ثوبَها، فتصف لموسى - عليه السَّلام - عجيزتَها، فيغض مرة ويعرض أخرى،
فقال: يا أَمَةَ الله، كوني خَلْفِي، فدخل موسى إلى شعيب - عليهما السلام - والعشاء مهيأ،
فقال: كُل، 
فقال موسى - عليه السَّلام -: لا،
قال شعيب: ألست جائعًا؟
قال: بلى، ولكني من أهل بيت لا يبيعون شيئًا من عمل الآخرة بِمِلْءِ الأرض ذَهَبًا.
أخشى أن يكون هذا أجرَ ما سقيتُ لهما، 
قال شعيب - عليه السَّلام -: لا يا شاب، ولكن هذه عادتي وعادة آبائي قِرَى الضَّيْف، وإطعام الطَّعام،
قال: فجلس مُوسى - عليه السَّلام – فأكل.
...فإن كانت هذه مائة الدينار عوضًا عمَّا حدثتك، فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ منه،
وإن كانت من مال المسلمين، فلي فيها شركاء ونظراء إن وازيتهم، وإلاَّ فلا حاجةَ لي فيها، إنَّ بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتُّقى حيث كانت أمراؤهم يأتون إلى علمائهم؛ رَغْبَةً في علمهم، فلما نكسوا ونفسوا وسقطوا من عين الله - تعالى - وآمنوا بالجبت والطاغوت، كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم، ويشاركونهم في دُنياهم، وشُرِّكُوا معهم في قتلهم.
قال ابن شهاب: يا أبا حازم، إيَّاي تعني، أو بي تعرض؟
قال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع،
قال سليمان: يا ابن شهاب، تعرفه؟
قال: نعم، جاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته كلمةً قطُّ،
قال أبو حازم: إنَّك نسيت الله، فنسيتني، ولو أحببت الله - تعالى - لأحبَبْتَنِي.
قال ابن شهاب: يا أبا حازم، تشتمني؟
قال سليمان: ما شتمك، ولكن شتَمْتَ نفسَك، أما علمتَ أنَّ للجار على الجارِ حقًّا كحق القَرَابة؟
فلما ذهب أبو حازم، 
قال رجل من جلساء سليمان: يا أمير المؤمنين، تُحب أن يكون الناس كلهم مثل أبي حازم؟ قال: لا[1].
وقال سفيان بن عينية: كتب أميرُ المؤمنين إلى أبي حازم،
وقال إبراهيم: كتب سليمان إلى أبي حازم، ارفع إلَيَّ حاجَتَك،
قال: هيهات، رفعت حوائجي إلى من لا يختزن الحوائج، فما أعطاني منها قنعت، وما أمسك عني منها رضيت[2].



[1] "حلية الأولياء"، لأبي نعيم، ج3، ص234، ص 237.
[2] "حلية الأولياء"، لأبي نعيم، ج3، ص237.

ليست هناك تعليقات: