كان الجوّ ذلك المساء لطيفاً وهادئاً، والسماء صافية، تتألق فيها النجوم، الليل يخيم ويلف الساحة الصغيرة في المنزل، ويحيط الوجهين المستديرين بهالةٍ ملائكيةّ عذبة.
يتساءل في سرّه، وهو يهمّ بالمغادرة :

- هل هي المرّة الأخيرة التي يرى فيها نجومَ السماء ؟
يكنّ لهما في أعماقه شعوراً استثنائياً، كونهما الأصغر والأكثر حاجة للعطف والاحتواء.
كلما تغرق نفسه في أشغاله ولقاءاته كان ينتشلها بهذه الطفولة الجميلة في عيونهما، فيجلس إليهما ويتعلم كيف يكون.
جرت عادتُه أن يصحبهما في مركبته، أو في مجلسه العامر بالزوّار، وهما يجدان الجرأة لتخطي الحضور للوصول إليه، والقعود على فخذيه بكل حبور.. غير عابئين بوشوشة الكبار.. وتحذيرات الآخرين، فقربهما منه لا يحتاج بطاقة دخول.
وعندما يغدو إلى مسجده على بعد أمتارٍ من منزله؛ يركضان وراءه، ويقعدان حيث يشير إليهما خلف الصفوف، حيث كان يقيم دروسه الصباحية، ريثما ينصرف من صلاته ليتسللوا إليه بخفّة، في سباق لا يكترث لمن حوله.
حين يهمّ أحد كبار السن بزجرهم؛ يجد من يهمس له ليدع الأمر على طبيعته ! فيهمهم الرجل العجوز بكل احترام ويمضي لحال سبيله.
يفصل بينهما سنة واحدة لم تكتمل، فالأول ولد في 17/12/1410هـ وسمّاه : عبد الرحمن ؛ التماساً لبركة الاسم، واتبّاعاً لحديث « إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ »
صبي..ذكيّ جداً، وهادئ، يستوعب المعلومة ويحفظها بسرعة، جدته لأمّه الطيّبة منيرة تفضّله على جميع الصغار، والثاني ولد في 25/11/1411هـ، وكانت تسميته "محمّداً" تأسياً باسم النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، لا يقل ذكاءً عن شقيقه، ولكنه عنيد، والعراك ينتهي غالباً لصالحه، مع كونه الأصغر ؛ لأنه يخوض الحرب مع مسالم مهضوم الحقوق !
يتعاركان على اللعبة، وعلى الحلْوى، وعلى كتفي الأب الذي اعتادا أن يرتحلاه، وكالعادة فالحرب أوّلها كلام، وتمتدّ لتكون تشابكاً بالأيدي الغضّة، ثم صراخاً واستنجاداً، وتنتهي بالعضّ قبل التدخّل لفض النزاع.
وجد دقائق قبل المغادرة ليحضنهما، ويمطرهما بسيل من القبلات المفعمة بشعور استثنائي، حيث مراكز الإحساس في العقل والروح والجسد تنفذ إليهما عن طريق الشفتين، وهو يضمهما كما يفعل الطائر بفراخه، وكأنه يريد أن يعوّضهما عن غياب طويل محتمل في المستقبل، وعن انشغال مؤكد في الماضي!
يتذكر جيداً ردّة الفعل العفوية حتى كأنها أمامه؛ ابتسامات بريئة محبورة، وتأوّهات من ألم الشعرات التي توشك أن تنغرز في وجناتهم، وكأنها لا تريد أن تفارقهم، وهم يمررون أناملهم الرقيقة على مواضعها ! كان يلوّح لهم بقلبه وهو يغادر..
لا يعرفون كيف غاب، ولا إلى أين؟ ولا متى يؤوب؟ بيد أن القلق وفقد الشهية والرغبة في البكاء هي خير تعبير عن الإحساس بوطأة الحدث عليهم.
يمضي أدراجه, يختلس التفاتات إلى حيث ترك قطعاً من قلبه، وهو يردد قول الشريف الرضي:
وَتَلَفَّتَتْ عَيني فَمُذ خَفِيَت **** عَنها الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ

السلطان على الجسد، أما الروح فتسبح في الخيال، وتناجي الأطلال، وتمرّ على الديار، وتقبل الجدار بعد الجدار، وحين يفقد سلطانه على الروح؛ تذهب إلى مساكن ألفتها وعرفتها، وتعلقت بساكنيها.
يصحو ذات يوم على وقع أقدام الحارس : استعد.. تَلبّس.. لديك زيارة!
المجلس ذو صبغة رسمية، وصلوا إليه بعد تحقيق وتدقيق، وانتظروا بشوق يلفّه الخوف، أو خوف يلفّه الشوق، خوف الصغار حين يرون البدلة الرسمية والوجوه الغريبة.
طمأنهم قدومه سريعاً مبتسماً، العناق يتحول إلى التزام وتضامّ، والقلوب على القلوب تحكي آلام الغياب والحرمان، والعيون تتحدث بلغتها الصامتة، ودموعها المخزونة التي آن لها أن تفيض، والخال يقول:
- دعهم ! فلا خير في الدمع إن لم يسعف في مثل هذا الموقف.
الأخوال الذين كانوا مثال المروءة والصبر والخلق الكريم، والذين واسوهم بصغارهم، يرقبون المشهد بغبطة وارتياح، ويدعون الفرصة للطفولة أن تعبّر عن ذاتها، وأن تدرك ثأرها من الفراق الطويل.
بدا وكأن لا شيء يشغله غير هذه السحنات المكتنِزة بالبراءة والصدق، البعيدة عن الرياء والخداع، وكأنه يسابق صوت المنادي بنهاية اللقاء، ذلك الصوت الذي لا يحتمل المراجعة، ها هو ينهض سريعاً حريصاً على أن يبدو متجلداً، وهو يقدم لصغاره ما حضّره لهم من هدايا وألعاب.
زيارة أخرى، فثالثة..
الجو مشحون بالغموض، والمصافحة الأولى مع الخال تكشف السر!
معانقة حارة يصحبها همسة سريعة، أن حدثاً جللاً وقع في "العليا" !
إذاً هذا الذي حال بين الجنّ وبين خبر التلفاز والصحيفة، لقد أصيب التلفاز بسكتة قلبية مفاجئة بسبب " عطل فني " طيلة الأسبوع، وأصاب "عطل آخر" سيارة الحارس الذي يحضر الصحف، وصادف في الوقت ذاته أن ترميمات وصيانة ظهرت فجأة في غرف الزيارة، وأدت إلى تأجيل الزيارات!
حقاً.. إن المصائب لا تأتي فرادى..
ها هو العطل الحقيقي يظهر، إنه إرهاص مبكر بسلسلة من الأحداث الأليمة التي حصدت أرواح شباب في عمر الزهور، في عمل منحرف، يعوق التنمية، ويشل الدعوة، ويذهب بخط البوصلة إلى غير هدى.
جاره يحدّثه برؤياه البارحة، رأى أن أربعة من الشباب لا يعرفهم, دخلوا إلى الحلاق، وجلسوا على الكراسي، وبدأ يحلق رؤوسهم بطريقة غريبة، حيث يضرب شعورهم بموسى طويلة، فيتساقط الشعر المجزوز ؛ أجابه على الفور أن أربعة سيعدمون، ربما على خلفية ذلك الحادث.
لا يطول ترقّبهم حتى يروا الاعترافات على التلفاز، ثم يتم تنفيذ الحكم في الأربعة.
الجو لا يزال ملبداً بالغيوم، والزيارة تتعرض لارتباك، ويعود عصفوراه أدراجهم دون أن يظفروا بتلك الدقائق التي هي كقطرات الماء للصادي.
محمد الحضيف يكسر المستحيل, ويبعث له على قرطاسة (نسكافة) بقلم يشبه الرصاص..
(( أحسست بالشجى في حديثك, ولم يكن صعباً أن أدرك عمق الأسى في وجدانك, لأنني أفهم هذه اللغة جيداً.
إنني مندوب جرح لا يساوم.
هذا كان حالي لأن بطاقة هديل (13 سنة) حيل بينها وبين الدخول، فكيف الحال لو كانت هديل نفسها؟
لا أظنني نجحت في التعبير عما في قلبي تجاهك.
إنك مقيم في أحلامي! ))
يتجدد اللقاء في شعبان 1416، ويقعد عبد الرحمن في حجره، يناجيه ويناغيه، ويداعبه ويتلمّس تقاسيم وجهه، وهو يطوّق رقبته بذراعيه الصغيرتين، ويضع فمه في فمه، كما تعوّد أن يفعل.. وقبل الانصراف يتلو عليه " سورة العصر " بصوت جميل، تزينه لثغة تقلب الصاد والسين إلى " ثاء ".
الابتسامة لا تعني أنه لم يعِ الدرس، وكأن مَلَكاً ألقاها على لسانه، إنها آخر كلمة سمعها منه، فهي صورة لا تفارق خياله أبداً، خاصة عندما يمرّ بهذه السورة، وما أكثر ما يمرّ بها..
في رمضان يكتفي بسماع الأخبار من جيرانه، حيث يوقف الزيارة متفرغاً للصيام والمراجعة.
هذا هو العيد السعيد!:
عيد تعاودنا في الجب يا عيد **** وقد مضى زمن فيك الأغاريد
استيقظ والدموع تبلل مقلتيه، لا يدري لماذا..؟
هل رأى فراخه في المنام، هل هو الإحساس عن بعد ؟ ربما.. وبين تلك القضبان يتساوى الحلم باليقظة، جسد هنا وقلب هناك، غير أن تباشير الصباح تنساب من الكوّة الصغيرة في أعلى السقف، فوق رأسه، حيث اعتاد أن ينام، أعادته إلى طبعه الميال إلى الابتهاج !
استبشر بالأفق الساحر، وهو يتخيّله وراء الجدران السميكة
وتذكر سيل الزيارات القادم.. ترى من أول من يعايدني؟
وتمتم بدعائه المعتاد الذي يجمع قلبه عليه.
أنسباؤه في زيارة عاجلة، والحزن على ملامحهم، وعيناه تنتقلان بسرعة تبحثان عن سرّ، ودقات القلب تهبط ثم تعلو.. هل أصاب فراخه سوء؟
- أبداً نبشرك أن محمداً بخير..
- وعبد الرحمن ؟!
- هو في المستشفى.. لقد عادت الأسرة بعد شهرٍ من الصيام والعبادة في جوار البيت الحرام، وانفجر إطار السيارة (الجمس) الخلفي، وعجز أبو طارق عن التحكم فيها، فتدحرجت ذات اليسار، وتقلّبت مرات، وتناثر الصغار على جانب الطريق، وقضى أبو طارق نحبه، وأمّه، الطيبة منيرة، وزوجه، وعفاف، وعبد الملك، يا الله ! ما أوجع أن يكثر حرف عطف في السياق ذاته ! وفي اللحظة ذاتها، عليهم رحمة الله..
ثم لحق بهم طارق وريّان , بعد أن مكثوا وقتاً يسيراً في مستشفى عفيف , ما بين (ظلم) و(عفيف)، وبعد الواحدة ظهراً، وفي ذات المكان الذي قضى فيه جدّهم (عبد الله) وبعض عائلته, في حادث مشابه, قبل سنوات؛ فغدا رقمهم صعباً لا ينسى (ثمانية زهر كما الأنجم الزهر).
يغالبه الحياء أن يلحّ في السؤال عن عبد الرحمن, وهو أمام موكب جنائزي يصطف فيه ثمانية من أفراد الأسرة.
أحد الأخوال يدرك الموقف, ويعيد:
- محمد بخير, ولديه كسر في الفخذ، وضربات بسيطة، وعبد الرحمن في العناية المركّزة، ولم يتمّ تشخيص حالته جيداً، ونحن وهو تحت رحمة الله!
يعرف من نفسه أنه لا يستوعب أبعاد الحدث للوهلة الأولى، وقد تبدو مشاعره متجمدة إزاء موقف يتطلب الانفعال، وعزاؤه دوماً أن " الصبر عند الصدمة الأولى ".
عاد إلى معتكفه، وظلال الحزن على وجهه، والخبر قد سبقه إلى أصحاب الحجرات، وهم يتحدثون عن " موت سريري " وهو يقدّر أن الأمر كذلك، وأن الخبر يُعطى له بجرعات الألم.
أصابه التيهُ، وبدا عاجزاً تجاه الموقف الصعب، والجوّ في حالة حداد لم ترها العين.
الزيارة التالية خلال أسبوع، يذهب مشطوراً بين الأمل والحزن، وتحدّثه النفس بلعلّ وعسى، الابتسامة المنقوصة على الشفاه اليابسة، والتأكيدات تتوالى أن محمداً بخير !
- وعبد الرحمن.. أين ستدفنونه ؟ يقولها, وهو يبتلع ريقه.
- الأطباء يقولون إنها حالة موت دماغي، لقد مكث فترة طوية بعد الحادث دون أكسجين، كان في حجر والدته، يحتمي بحنانها حين وقع القدر، وحين تساقط الصغار على وقع الارتطام، تعلق ثوبه الجديد بحديد السيارة فخنقه، لقد نقل إلى المستشفى دون ضربات في جسده , أراد أن يحمي بياض ثوبه من انثعاب الجروح؛ فانفجرت داكنة في داخله، وظل يومين بمستشفى عفيف، قبل أن تنقله طائرة الإخلاء الطبي إلى مستشفى الملك خالد الجامعي..
يعيش على الأجهزة، والأطباء يسلمون عليك، ويطلبون رأيك في رفع الأجهزة !
- ليس لي رأي، هُم من يقف على التفصيلات ويقدّر الاحتمالات، وأُفضّل ألا تُرفع الأجهزة إلا إذا دعت الحاجة لذلك، لإنقاذ مريض له حظوظ في احتمال الحياة.
ينصرف الجميع، دون أن يلحظوا عليه الانكسار, فالانكسار عكّازة الآخرين للمرور بترفع على جراحك، ولكن تيار الحزن والرحمة يدمدم في صدره، هو منه على بعد أميال.. ماذا لو.. ألقى عليه نظرة الوداع قبل أن ترفع عنه الأجهزة.
الجواب.. هو لا جواب !
في 15 شوال يأتي الأخوال, أحمد وإخوانه, يسلمون ويعزّون..
- إنا لله وإنا إليه راجعون، شهيد إن شاء الله.
- ليتك رأيت الجمع الذي صلى عليه أمس في جامع الشيخ صالح الونيّان، كانت جنازة مشهودة.
- أستاذته في الروضة, تقول لأمه: منذ رأيت وجهه، أحسست أنه من أهل الآخرة!
تماسك ولم تدمع عينه، وتذكر قول ابن الرومي:
وليس البُكا أن تسفحَ العينُ إنما **** أحرُّ البكاءينِ البكاءُ الموَلَّجُ
لم يتبين مدى تعلّقه به جيداً إلا في غيابه !
ينقلب إلى غرفته وفي خياله صورة الجسد الذابل ممدداً على السرير، ملفوفاً بالقماش الأخضر، مُغمض العينين، يتردد نفسه بدعم الأجهزة الطبية، وأشباح الموت تطيف به فيقول :
تَرَاءَاكَ عَـيْنِي فِي السَّرِيرِ مُوَسّداً **** عَلَـى وَجْهِكَ المكْدُودِ أَوْسِمَةُ الطُّهْرِ
بَرَاءَةُ عَيْنَيْكَ استَثَارَتْ مَشَاعِرِي **** وَفَاضَـتْ بِأَنْهَارٍ مِنَ الدَّمْعِ فِي شِعْرِي
يستعيد جلسته الأخيرة التي لم يره بعدها.
حينما تذهب روحه لزيارة قبره التائه بين القبور، يجد زغب الكف الصغيرة تحول لنبتات خضراء على قبره, فيسجّل هذا المشهد:
وَكَفَّاكَ حِيناً تَعْبَثَانِ بِعَارِضِي **** وَحِيناً عَلَى كِتْفي وَحِيناً عَلَى صَدْرِي
أَرَى فَمَكَ الحلْوَ المعَطّرَ فِي فَمِي **** كَمَا اعتَدتُ هَذَا الحُبَ مِنْ أَوّلِ البرِّ
وَتُفْرِحُنِي أَطْيَافَكَ الخُضْرُ إِنْ بَدَتْ **** مُضَمَّخَةً، أَهْلًا بأَطْيَافِكَ الخُضْرِ
يستعيد نغمته, وهو يتلو عليه سورة العصر، إنها آخر كلماتٍ سمعها من ذلك الفم الطهور :
حَبِيبي فِي شَعْبَانَ أَلفيت زائراً **** طَروباً إِلَى لُقْيَاي مُبْتَسِمَ الثّغرِ
قَعَدتَ بِحِجْرِي وَالسُّرُورُ يَلفّني **** وَشَنَّفْتَ سَمْعِـي تَالِياً سُورةَ العَصْرِ
أَرَاكَ تُعَزّيِنِي بِهَا وَتَلُومُنِي **** عَلَى جَزَعٍ تَخْشَاهُ مِنْ حَادِثِ الدَّهْرِ
أحسّ بشعور اليُتم، وتذكّر من يقاسمه الإحساس، غير والدته الثاكل ؛ ألعابه المهشّمة، الدّراجة ذات الثلاث عجلات، قضمة حلوى لم يكملها، ثيابه التي أضربت عن النمو، وقررت البقاء في مرحلة الطفولة دون تحول, أراد أن يدخل مع بوابة العصافير للجنة!
وَأَلْعَابُكَ اشْتَاقَتْ إِلَيكَ وَهَالهَا **** غِيَابُكَ عَنْهَا مَيّتٌ وَهْيَ لَا تَدْرِي
يَتَامَى يَكْسّرْنَ القُلُوبَ هَوَامِدٌ **** وَلَمّا يَصِلْ أَسْمَاعَها فَاجِعُ السّرِ
سريره وهو مُسجّى، لفافته البيضاء، أنفاسه اللاهثة المبهورة، جنازته الصغيرة محمولة من الرياض إلى بريدة , حيث يُوارى في مدفنه.. مشاهد متعاقبة, لم تدركها عينه؛ فصوّرها خياله بعدسة مبدع محترف، وصار يستعيدها كلما أوى إلى فراشه، وانفرد عمن حوله، وإذا حُبس الجسد اتسعت العين:
تَمَنَّيْتُ لَوْ تُغْنِي الْأَمَانِي نَظْرَة **** إِلَى جَسَدٍ ذَاوٍ يُغَرْغِرُ بالبَهْرِ
تَمَنّيتُ حَتّى وَقْفَةً عِنْدَ نَعْشِهِ **** تَرُدُ إِلَى نَفْسِي الّذِي ضَاعَ مِنْ صَبْرِي
تَمَنّيتُ مَا نَالَتْ أُلُوفٌ تَوَجَّهَتْ **** إِلَى رَبِّها صَلّتْ عَلَيكَ مَعَ العَصْرِ
تَمَنّيتُ كَفّاً مِن تُرَابٍ أَسُنُّهَا **** عَلَى قَبْرِكَ الميمُونِ طُيب مِن قبرِ
تعتريه حالة وجد وغضب على وسيط لم يشاطره الألم, ولم يُخلص في نقل الرسالة في إلقاء النظرة الأخيرة على فقيده، فيرمي بالحفنة إليه..
فَإِنْ لَم يُحالِفْني الزَّمَانُ فَإِنَّهَا **** عَلَى أَوْجهِ الْمُستلئِمينَ عَلَى الْغَدْرِ
وَفِي أَعْينِ السَّاعِينَ بِالضِّر وَالْأَذَى **** ........................
عَتْب عابر , تحوّل بَعْدُ إلى مزاح طريف، وقرر حذفه من القصيدة مع أبيات تشبهه.
يأتي محمد طيّب النفس، عليل الجسد، وأخواله يتندرون على عناده وصلابته، الذي يرفض بإصرار أن يتفحّص الطبيب أو الممرضة الجبس الذي على فخذه، وهناك في ركن الغرفة كرسي فارغ في حالة إجهاش وانتحاب.
يشيح بوجهه، ويقرر أن يفرح بهذا الوجه الصبوح الذي أبقاه الله له، وانتزعه من بين براثن الموت، ليكون هو الدفء والحنان والحميمية لأبٍ يرى وجه فقيده في وجوه كل الأطفال.
المخدّة وحدها شاركته حزنه الصامت، وخرائط الأحزان فوقها وجه عبد الرحمن، وعلى نار الحزن تنبت الحكمة.
صورة الطفولة المبكّرة تعتاده، وتبعثر صبره، يغوص في التفاصيل، القماط الذي كان يُلفّ به، والفراش الذي كانت الطفولة تبلله، والملحفة التي كان يتدثر بها ويتعلق بها، الخطوات الأولى المتعثّرة، نظرات العيون، الذكريات الساخرة، عامل البقالة البنغالي الذي يعطف عليهم حيناً، ويتبرم بهم أحياناً ويصرخ:
- أنتم بزارين!
- تهجم عليه القصيدة بغتة ذات مساء، فينهض من وسادته حيث لا قلم، إلا البطارية، يعمدون إلى مكينة الحلاقة، ويستخرجون شيئاً كقلم الرصاص، ويدونون الأبيات.
أحدهم رأى في منامه, أن دمعة خرجت من عين الوالد المكلوم، فأخبره المعبّر أنه سيقول قصيدة في وداع ولده.
يخرج المخطوط متنكراً مع أخته "منيرة", ليدخل غرفته علانية, عبر إحدى الصحف المحلية " بحسن نية ", ويشاركه صاحبه د.سفر الحوالي أحزانه في قصيدة معارضة, يذكر فيها:
ثلاثون ألفاً في جنازة يافعٍ **** طريرٍ حديث العهد بالمهد والثغرِ
يستعيدها منه رفاقه وحرّاسه، وهو يتغنى بها بصوت شجي، والدموع تترقرق من عيونهم.
ليس شاعراً، ولا حزيناً، ولكنها الدمعة التي لا يؤاخذ الله بها.. كانت تلك القصيدة الدمعة مناحة شعرية لكثير من المحبين, الذين تلوها وحفظوها وغنوها وأبكى لأجلها آخرين.
*******************